تابع : هل الانسان عابد بفطرته ؟
إن الإنسان من منطلق أصله العدمي، وافتقاره الأصلي، عابد لربه عبادة ذاتية، وإن كان عند نفسه وعند الآخرين، كافرا ملحدا. وهذه العبادة عامة، لا يشذ عنها أحد من المخلوقين؛ كل بحسب مرتبته. وحصْر العبادة، في العبادة الشرعية أو الوضعية، هو اختزال لمعنى العبادة؛ ظن معه الجاهلون، أنه يمكنهم أن لا يكونوا عابدين. وعلى هذا، فإن الفرق بين عبادة المؤمن وعبادة الكافر، هو أن المؤمن يجمع بين عبادتين: ذاتية وشرعية؛ والكافر ليس له إلا العبادة الذاتية.
يتضح مما سبق أن تصنيف العباد، لا يكون إلا باعتبار العبادة الشرعية الاختيارية؛ التي يكون عنها تحديد المصير الأخروي، لكل عابد ما بين جنة ونار. يقول الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة: 213]؛ فكون الناس أمة واحدة، هو بالنظر إلى العبادة الذاتية، لا كما قد يتوهمه المتوهم من حرية مطلقة؛ لأن الحرية المطلقة على المخلوقين محال. وبعثُ النبيين بالبشارة والنذارة المذكورُ في الآية، هو للدلالة على العبادة الشرعية التكليفية، التي يكون عنها الجزاء. وهذه العبادة -كما هو واضح- جزئية لا تعم عموم العبادة الذاتية؛ إلا عند العارفين الذين ارتقت عبادتهم الشرعية إلى أن صارت صورة للذاتية.
وكل من يظن من الكافرين، أنه يمتنع عن عبادة الله، فإنه يكون جاهلا بواقع حاله فحسب. أولا، لأنه لا يخرج عن قبضة الله في كل ما يأتي من أموره، وإن بدا له أنه مختار. يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَا مِنْ قَلْبٍ إِلا بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ إِنْ شَاءَ أَقَامَهُ، وَإِنْ شَاءَ أَزَاغَهُ»[1]. والإشارة بالأصبعين، هي لفريقي الجمال والجلال من الأسماء؛ ولهذا نسبهما إلى الرحمن الذي له مع الله الأسماء كلها. ثانيا (وهو تابع للأول)، لأن العبد عند إبايته طاعة ربه، فهو يخرج عن عبادة أسماء الجمال إلى عبادة أسماء الجلال فحسب. وهو ما أشار إليه الحديث بـ”أزاغه”. وعلى هذا، فإن الكافر أو العاصي، يكون عابدا عبادة كَره، لا يؤجر عليها كما يؤجر المؤمن المطيع. فهو قد ضيع على نفسه الأجر فحسب؛ ويظن أنه يُحسن تدبير أموره!..